ماذا بعدما اصبحت اسرائيل النووية دولة 'نفطية'؟

تحتدم الصراعات في منطقة الوسط الإسلامية الممتدة من المغرب وموريتانيا على سواحل المحيط الاطلسي الى اندونيسيا وماليزيا على سواحل المحيط الهادىء.
يشكّل الوطن العربي قلب هذه المنطقة الاستراتيجية وخزانها البشري (330 مليوناً)، ومستودع مواردها الطبيعية الهائلة (النفط والغاز والفوسفات والكبريت)، ومعقد مضائقها البحرية الحاكمة (جبل طارق، السويس، باب المندب وهرمز) وميدان صراعاتها الاكثر احتداماً (فلسطين، لبنان، العراق، اليمن، والسودان).
مع بداية العشرية الثانية للقرن الحادي والعشرين، تتبدى تحديات تاريخية عدة ابرزها خمسة، تقابلها استجابات، بمعنى مواجهات، متنامية ابرزها خمسة ايضا .
اول التحديات انهيار النظام الاقليمي العربي تدريجاً منذ هزيمة حرب 1967، واخراج مصر من حومة الصراع العربي الصهيوني (كامب دايفيد 1978) والاردن (معاهدة وادي عربة 1993) وانتكاسة الكفاح الفلسطيني المسلح بتوقيع اتفاقات اوسلو (1993) ، وقبل ذلك نتيجةَ إجتياح اسرائيل للبنان عام 1982 .
الاستجابة لمفاعيل هذا التحدي هي في مواجهة حال الهزيمة والإستكانة والخروج منها الى حومة الصراع والمواجهة من جديد .
ثاني التحديات تصعيد الهجوم الامريكي الصهيوني على دول المنطقة بإستنزاف العراق في حربه مع ايران (1980-1988) وفي اجتياحه الكويت (1990) وفي حرب إخراجه من الكويت (1991) وفي حصاره (1991-2003) وصولاً الى احتلاله (2003) واسقاط نظامه وحل جيشه وتفجير فتنة اهلية، مذهبية وطائفية واثنية، في ربوعه وضعته على شفير التفكك الى ثلاث دويلات . ورافقت هذه الاحداث واعقبتها عمليات توسيع للإستيطان الصهيوني في الضفة الغربية، وتأجيج طائفي ومذهبي في لبنان (تداعيات اغتيال رفيق الحريري)، ثم شن حرب ضارية عليه (2006) لمحاولة تصفية المقاومة ، وتعميم حال 'الفوضى البناءة' في المنطقة عامة. الى ذلك، جرى تأجيج العصبيات والصراعات في السودان (دارفور ثم الجنوب) واليمن (مع الحوثيين في الشمال والحراك المعارض في الجنوب) والصحراء الغربية بين المغرب والجزائر.
الإستجابة لمفاعيل هذا التحدي هي في مواجهة حال الشرذمة والفتنة الأهلية و'الفوضى البناءة' بترميم الوحدة الوطنية داخل المجتمعات العربية، وتوحيد الارادة السياسية، ومواجهة حركات الانفصال بإعتماد الديمقراطية وحكم القانون والتنمية المتوازنة.
ثالث التحديات صعود الحركة الإسلامية بعد إنحسار الحركة القومية ما ادى لاحقاً الى نجاح القوى الحية في فلسطين ولبنان والعراق في بناء حركات مقاومة ميدانية ومدنية لقوى الاحتلال والهيمنة الامريكية والصهيونية، توزّعت على نوعين من التنظيمات : الاول دافعه الغالب قومي وإن خالطه اتجاه اسلامي، وقد تجلّى في حركة 'حماس' و'المقاومة الاسلامية' (حزب الله). الثاني دافعه إسلامي ومتمرس بالعنف الاعمى، وقد تجسد في تنظيم 'القاعدة' وحركات متفرعة عنه بأسماء شتى . حركات المقاومة القومية- الاسلامية ركّزت في كفاحها على الغرب الامريكي الصهيوني بما هو احتلال للارض والارادة، وعلى مصالحه الاقتصادية او المتصلة بها . حركات العنف الاسلامية ركّزت في ممارستها على الغرب بما هو ثقافة وعلى مؤسسات وقيادات تحمل ثقافته او تخدمها .
الاستجابة لمفاعيل هذا التحدي هي في مواجهة حال التنابذ والتناحر السائدة بين قوى المقاومة القومية وقوى العنف الاسلامية باتجاه التضامن والتنسيق فيما بينها لتوليد حركة مقاومة وطنية موحدة تركّز على مواجهة الغرب كقوة احتلال وكمصالح اقتصادية، وتُسهم في بناء ثقافة عربية مبدعة تكتنه الجوانب الحية من التراث (وجوهره الإسلام) وتنفتح على وتتبنى الجوانب العلمية والتكنولوجية المفيدة من ثقافات الامم في الغرب والشرق معاً.
رابع التحديات صعود ايران وتحوّلها قوةً اقليمية مركزية ذات قدرات نووية الامر الذي اقلق الولايات المتحدة واستثار خشيتها على مصالحها وعلى امن اسرائيل من جهة، وحفّزها على وضع ترتيبات جديدة لسد فراغ القوة الناشيء عن اضطرارها الى الإنسحاب، عاجلاً او آجلاً، من العراق وافغانستان من جهة اخرى. في هذا السياق، تسعى اميركا ومن ورائها اسرائيل الى إقناع دول 'الاعتدال' العربية بأن الخطر الاول عليها بات ايران النووية لا اسرائيل الصهيونية، و ان حماية أمنها القومي يكون بالتخلي عن عدم اعترافها بإسرائيل من اجل بناء جبهة إقليمية عريضة في وجه ايران. هذا 'الخيار' الملغوم يتطلب التخلي عن الشعب الفلسطيني وقضيته، كما يتطلب استكمال تهميش مركزية هذه القضية في الحياة العربية بالافادة من انقسام القوى الفلسطينية على نفسها وتخاذل النظم السياسية العربية المتحالفة مع اميركا والخاضعة لارادتها.
الإستجابة لمفاعيل هذا التحدي هي في بناء نظام مصالح اقليمي جديد يرتكز، بدايةً، على تنسيق وتكامل مصالح سورية وايران وتركيا في مواجهة نظام المصالح الامريكي الصهيوني الآخذ بالتراجع إقليمياً، ثم تطويره الى تحالف سياسي امني اقليمي فاعل في وجه اميركا واسرائيل .
خامس التحديات تطور اسرائيل المتسارع من دولة نووية متقدمة ومتفوقة، عسكرياً وتكنولوجياً، الى دولة 'نفطية' ايضا. ذلك ان نتائج التنقيب عن الغاز في حقل 'لفيتان' الواقع شمال غرب حيفا في منطقة محاذية للحدود البحرية اللبنانية بل متشابكة معها، اظهرات ان الحقل يحوي 16 ترليون قدم مكعب من الغاز، اي ما يساوي نحو 450 مليار/ بليون متر مكعب. وقد اعلنت شركة 'نوبل انرجي'، الشريكة في التنقيب عن الغاز والنفط ، ان مخزون هذا الحقل يجعله الاكتشاف الاهم في مجال الطاقة في العالم خلال العشرية الاولى من القرن الحالي، بل ان هذا الاكتشاف يتيح لاسرائيل الاعلان عن نفسها امبراطورية في مجال الغاز. الى ذلك، فإنه من المتوقع ان تُسفر اعمال الحفر على عمق 5800 متر عن اكتشاف كمية من النفط تقدّر قيمتها بنحو 3 مليارات دولار، وان الحفر على عمق 7200 متر يُحتمل ان يؤدي الى اكتشاف حقل يحوي 1,2 مليار برميل من النفط. صحيح ان تقديرات المعهد الجيولوجي الامريكي افادت ان لبنان وقبرص يملكان، الى جانب اسرائيل، مخزونات غاز هائلة، إلاّ ان لبنان لم يضع بعد قانون التنقيب عن النفط موضع التنفيذ. هذه التطورات البالغة الاهمية تبعث على القلق. ذلك ان اسرائيل ستصطدم مع لبنان لا محالة بشأن ترسيم حدودهما البحرية، وستلجأ بفضل تفوقها العسكري الى محاولة فرض الامر الواقع عليه. ثم ان امتلاكها هذه الثروة النفطية الهائلة وما تدره من عائدات ضخمة سيعزز استقلالها السياسي والمالي عن اميركا، كما سيجعل منها، هي الاخرى، قوة اقليمية مركزية ويؤدي تالياً الى احداث تعديل محسوس لصالحها في موازين القوى الاقليمية .
الاستجابة لمفاعيل هذا التحدي هي في مواجهة اسرائيل النووية والنفطية من خلال التعجيل في بناء نظام مصالح اقليمي مقابل لنظام المصالح الامريكي القائم وتوفير الحماية الكافية له بإمتلاك ايران او تركيا او سورية او كل هذه الدول اسلحةً نووية لتأمين قيام توازن ردع نووي فاعل . ألم تكشف هيئة الارشيف الوطني البريطاني أخيراً وثيقةً تشير الى ان مسؤولي السفارة البريطانية في تل ابيب كانوا يخشون منذ عام 1980 ان تستخدم اسرائيل اسلحة نووية في حال نشوب حرب بينها وبين دول عربية مجاورة ؟
الى بناء نظام المصالح الاقليمي الجديد وتوازن الردع النووي الفاعل، يقتضي ايضا انجاز هدفين استراتيجيين بالغي الاهمية :
الاول، تحويل لبنان بلا ابطاء الى دولة مواجهة، لا مجرد دولة مساندة، والى شريك فاعل في تحالف دول الممانعة (سورية وايران وربما العراق بعد إنسحاب القوات الامريكية) وتعزيز قدرات قوى المقاومة والجيش اللبناني على مواجهة اسرائيل. اجل، لا يجوز ان يبقى لبنان بلا دولة، وبلا جيش قوي، وبلا قوة نظامية رادعة لاسرائيل التي تحتل منطقة مزارع شبعا الجنوبية وتسيطر تالياً على باطنها حيث بحرٌ من المياه الجوفية، كما تسيطر على مساحة واسعة من إقليمه البحري الجنوبي حيث حقول الغاز والنفط ذات المخزونات الهائلة .
الثاني، إقامة تكامل اقتصادي بصيغة سوق مشتركة واتفاقات تعاون وتبادل واسعين بين لبنان وسورية والعراق والاردن، تكون نواة لإتحاد كونفدرالي على غرار الاتحاد الاوروبي او ربما اتحاد فدرالي على غرار المانيا . آن اوان الفعل قبل ان نصبح، بسباتنا المتطاول، خارج مسار العصر.

القدس العربي